الصيحة الأولى بكلمة «ارحل» انطلقت من تونس وميادينها.. خرجت باللغتين العربية والفرنسية، ومن حناجر حشود شعبية عارمة، ولاقت صداها في الميادين.. وما هي إلا أيام، حتى غادر زين العابدين بن علي تونس على وجه السرعة، علَّه يجد مكانا يهرب إليه من صرخة «ارحل» هذه، ووجد ملاذه في السعودية، بعد أن أغلقت فرنسا أبوابها بوجهه. ثم انتقلت هذه الكلمة إلى ميدان التحرير في مصر، مع الحشود التي تزايدت أعدادها بالآلاف، لتتحوَّل إلى ملايين، فاض بها الميدان، وتوزعت على الشوارع المحيطة به.. هي ذات الكلمة التي ترددت في تونس، ثم انتقلت إلى القاهرة والمدن المصرية الأخرى، حتى أتى الرحيل على شكل بيان تلاه عمر سليمان، ومكث الرئيس المصري حسني مبارك في بلده محروساً في شرم الشيخ، مكانه المفضَّل، وأعادت مصر عملية الرحيل مرة أخرى ضد الرئيس المنتخب مرسي، بعد استفراد الإخوان المسلمين بالسلطة والإعلان الدستوري والهيمنة على مفاصل البلد الرئيسة، ورفضه إجراء انتخابات رئاسية مبكرة.
عادت صيحة «الرحيل» مرة أخرى إلى الميادين، التي اكتظت بالملايين من البشر وأغلقت الشوارع.
«ارحل»، هي إذن كلمة الشعب، أولاً وأخيراً، انطلقت لتعبر بطريقة سلمية عن إرادة الشعب، لتكون الفاعلة فيها والحاضنة لها، لكن عندما تأتي بإملاءات خارجية- كما تسعى الولايات المتحدة وبعض الدول الغربية، وعلى رأسها بريطانيا وفرنسا، وتفرض الرحيل على أحد الرؤساء- فهذا يدخل في إطار الحسابات والمصالح الدولية، ويزيل الصفة الجماهيرية، كاحتضان لكلمة الرحيل هذه، وهذا ما حدث في ليبيا، ما أدى إلى دولة فاشلة، ترتع فيها مختلف أطياف التنظيمات، بما في ذلك التنظيمات الإرهابية، وهذا ما جرى في العراق في وقت سابق، وهو ما يجري الآن في اليمن، من جراء التدخلات الخارجية والبعيدة عن الاحتضان الجماهيري الحقيقي، وهذا ما يجري في سوريا حاليا، بعد التدخلات التي تمَّت منذ البداية من قِبل أطراف دولية وإقليمية، ولاتزال مستمرة حتى الآن بالمطالبة برحيل الأسد، كأولوية للحل السياسي في سوريا.
ليس من حق أي دولة فرض إرادتها باستخدام القوة المباشرة أو غير المباشرة لإزاحة رئيس ما، فهذا من حق الشعوب وهدف حركتها النضالية، وإلا، لكان هناك عُرف دولي لفرض الإرادات الخارجية على الدول، أو على دولة ما.. من حق الشعب السوري المطالبة برحيل رئيسه سلميا على المستوى النضالي، أو عبر صناديق الانتخابات وتحت الرقابة الأممية، ولا حق لدولة خارجية أن تفرض إرادتها لرحيل هذا الرئيس أو ذاك، فهذه أولى خطوات الفوضى التي تقود إلى الحروب الأهلية.
«ارحل»، كلمة لابد أن تنبع من الحراك الجماهيري، وليس بإملاءات يفرضها الغير.