
كتب محرر الشؤون الاقتصادية:
أطلت فكرة «خصخصة بعض القطاعات النفطية» برأسها مجدداً، بعد التصريحات الأخيرة التي أطلقها نائب رئيس الوزراء وزير المالية ووزير النفط (بالوكالة) أنس الصالح، والتي تعد بمثابة «بالونة» اختبار لقياس ردود الفعل عليها، سواء من الشارع الكويتي، خصوصاً العاملين في القطاع النفطي، حول خصخصة هذا القطاع المهم.
وقال الصالح خلال الجلسة الختامية من ملتقى الكويت للاستثمار الأسبوع الماضي «إن الكويت تفكر في طرح بعض شركات الخدمات النفطية الحكومية للاكتتاب في البورصة»، موضحاً «أن القواعد الدستورية والقانونية تمنع طرح شركات إنتاج النفط الحكومية للاكتتاب في البورصة».
وتابع: «من الشركات الحكومية المرشحة للطرح شركة ناقلات النفط الكويتية، وشركة البترول الكويتية العالمية، وهذا فقط على سبيل المثال.. نفكر في طرح اكتتاب عام لشركات الخدمات النفطية الحكومية يستفيد منه المواطنون، وتكون لهم حصة فيها.. حصص قليلة ثم تنمو وفق قدرة السوق على الاستيعاب».
وأشار إلى أن الحكومة ستقدم وثيقة لمجلس الأمة (الأسبوع الجاري)، تتكون من 6 محاور، تتمثل في الإصلاح المالي وإعادة رسم دور الدولة في الاقتصاد الوطني، وزيادة مساهمة القطاع الخاص في النشاط الاقتصادي، ومشاركة المواطنين في المشروعات وإصلاح سوق العمل، ونظام الخدمة المدنية، والإصلاح التشريعي والمؤسسي والإجراءات المساندة.
وأكد الصالح أن الحكومة تسعى بكل جدية للنهوض بالاقتصاد الوطني، عبر العديد من الخطوات، منها مشاريع الخصخصة ومشاريع المشاركة بين القطاع العام والخاص، كذلك الاهتمام بالمشروعات الصغيرة، مضيفاً «الخصخصة تحديداً سيكون لها دور في إصلاح المالية العامة».
توجه سياسي
وعلى الرغم من أن الوزير الصالح قال في تصريحاته كلمة «طرح»، ولم يقل خصخصة بالمعني الواضح، ومصطلح «الطرح» يعني طرح أسهم زيادة في رأس أموال تلك الشركات في البورصة لمن يريد الشراء، وهذا مغاير «شكليا» لبيع أسهم الملكية بنظام الخصخصة، لكن سيترتب على بيع هذه الأسهم الجديدة فى البورصة، أن يتغيَّر هيكل الملكية، من ملكية خالصة للدولة إلى ملكية فيها مشاركة مع أفراد أو مؤسسات خاصة، وبشكل أو بآخر، لو استمر هذا الطرح لعدة مرات، فهو يعد بيعا تدريجيا يفضي في النهاية إلى إحلال مُلاك آخرين محل الدولة.
ومن خلال كلام الصالح، وتأكيده أكثر من مرة، أهمية «زيادة مساهمة القطاع الخاص في النشاط الاقتصادي»، وأن «الخصخصة تحديداً سيكون لها دور في إصلاح المالية العامة»، نستنتج أن التوجه القادم للدولة سيكون نحو الخصخصة، والبداية ستكون بطرح شركات الخدمات النفطية الحكومية للاكتتاب في البورصة.
كما يمكن أن نستنتج، أن التوجه إلى الخصخصة سياسي بالمقام الأول، فالحكومة تستهدف من ذلك، قيام القطاع الخاص بالدور الذي لم تستطع القيام به، من استغناء عن العمالة الوطنية في المؤسسات الحكومية، فالحكومة لا تستطيع اتخاذ هذا القرار، من ثم أوكلت القطاع الخاص للقيام به عبر ما يسمى بـ «الخصخصة».
ونحن في هذا المقام لسنا ضد الخصخصة، فنحن معها إذا كانت ستفيد الاقتصاد الوطني، وضدها إذا كانت ستضر بالوطن، وتتحول إلى عمليات ممنهجه لنهب ثروات البلاد، وضياع أصول الدولة بأبخس الأثمان، لخدمة أشخاص وأجندات خاصة.
لا سبب مقنعاً للخصخصة
وإذا كانت هناك بعض القطاعات أو الشركات التي تحتاج فعلاً إلى خصخصتها، فالمؤكد أن الشركات النفطية الحكومية ليست منها، إذ إنه من المعروف أن من أهم الأسباب التي تدعو إلى الخصخصة، ضعف الأداء المالي، وعدم تحقيق المنشآت المراد تخصيصها لأي أرباح، واستنزاف هذه المنشآت للدعم الحكومي، بما يؤدي إلى عجز في الميزانية، كذلك اقتراض هذه المنشآت من البنوك بضمان الحكومة، وتحمل الحكومة في بعض الأحيان سداد هذه القروض، في حال عجز المؤسسة عن السداد.
وكل أسباب الخصخصة السابق ذكرها لا تنطبق على الشركات النفطية الحكومية، سواء شركات الإنتاج، أو شركات الخدمات النفطية، فهذه الشركات أداؤها المالي جيد، وتحقق كل عام أرباحا جيدة تعلنها على الجميع في وسائل الإعلام المختلفة، ولا تحقق خسائر تشكل عبئا على ميزانية الدولة، كما أن هذه الشركات منتظمة في سداد أي قروض اقترضتها لتنفيذ مشروعات أو إجراء توسعات، يُضاف إلى ما سبق، أن هذه الشركات لا تقدم خدمات أو سلعا للجمهور (باستثناء شركة ناقلات النفط، التي تقدم خدمة أسطونات الغاز من مصنعي تعبئة الغاز البترولي المُسال)، من ثم يكون الهدف من خصخصتها تحسين الخدمة المقدمة للمواطن، وهذا كله يجعلنا لا نجد سبباً مقنعاً لخصخصتها، كما يجعلنا نتساءل عن ماهية المكاسب المتأتية من خصخصة شركات في القطاع النفطي، والتي نعرف مقدماً أنها ليست مجدية، فالتحول إلى الخصخصة والهرولة إليها من دون دراسات كافية سيغرقنا في بحر من الفساد، مع العلم بأن الخصخصة في جوهرها قد تقود إلى تنمية اقتصادية، وتفتح مجالات وأسواقا جديدة، فالهدف قد يكون نبيلاً، لكن «المشكلة» في التنفيذ، في ظل وجود أطماع لنهب مقدَّرات الوطن واستغلال خصخصة الشركات النفطية، لتحقيق مكاسب خاصة، لتكتب الحكومة صفحة جديدة سيئة في عمر اقتصادنا الوطني، وتضيف تجربة مريرة إلى تجاربها المؤسفة في المجال الاقتصادي، بعدما جعلت اقتصاد البلاد حقل تجارب.
أمن قومي
إن مخطط بيع الشركات الحكومية التي تحقق أرباحاً مثل الشركات النفطية عملية تشوبها العديد من المخاطر، منها حرمان خزينة الدولة من الأموال التي تدرها هذه الشركات سنوياً، وضياع حقوق العاملين، هذا بالإضافة إلى البُعد الاستراتيجي لهذه الشركات، إذ إنها أمن قومي للبلاد، والمؤكد أن خصخصتها من دون دراسات كافية، ومع وجود الفساد يحول الأمر إلى عملية تنفيع للطبقة الرأسمالية، أكثر منها توجه إصلاحي.
أما الترويج طوال الوقت لفكرة أن «الخصخصة تشجع القطاع الخاص للقيام بدوره الاقتصادي في التنمية»، كما هو حادث في الكثير من دول العالم، فهذا كلام غير دقيق، فالقطاع الخاص الكويتي (باستثناء قطاع البنوك)، لم يصل إلى مرحلة النضوج بعد، واعتاد هذا القطاع منذ نشأته على الاعتماد على الحكومة، وقد سقط هذا القطاع خلال الأزمة المالية العالمية في 2008 سقوطاً مدوياً، وانكشفت «عورته»، ولم يستطع النهوض من كبوته، لولا تدخل الحكومة ودعمها له من المال العام، ولولا هذا التدخل لحدثت كارثة فيه. والمؤكد أن القطاع الخاص في الكويت حتى هذه اللحظة غير قادر على تحمُّل أخطائه، وكلما تعثر يصرخ طالباً المساندة من الدولة، فهل هذا القطاع، وعلى هذه الصورة، قادر على القيام بدور رائد وتحمل مسؤولية إدارة مرافق حيوية في الدولة؟
الغربلي: القطاع النفطي أمن قومي وخصخصته في غاية الخطورة
مع توجه الحكومة للخصخصة، واعتزامها القيام بها، حتى لو كان هذا على حساب الوطن، أقام المنبر الديمقراطي في وقت سابق ندوة اقتصادية تحت عنوان «الخصخصة في الميزان»، أكد خلالها الخبير الاقتصادي عبدالجليل الغربلي، أن الأمثلة الحية للخصخصة في الكويت محدودة جداً، فلم تنفذ حتى الآن إلا على محطات الوقود، ومع أن المثل محدود، إلا أنه تم بشكل غير سليم، «ولم يكن خصخصة، بل مصمصة».
وأشار الغربلي إلى أن قضية العمالة تبقى هي المعضلة الأكبر في قضية الخصخصة، فمع تطبيق الخصخصة يتم الاستغناء عن أعداد كبيرة من العاملين في المؤسسات، فالقطاع الخاص يستهدف تحقيق أكبر ربح، وهذا يتم عبر تقليل التكاليف، وأول حلقة لتحقيق ذلك الاستغناء عن أعداد كبيرة من العمالة، بعكس الدولة التي عليها مسؤوليات اجتماعية تجاه المواطنين، لا تقوم على حسابات الربح والخسارة.
يُضاف إلى ذلك، أن العمالة المتبقية في هذه المؤسسات يمكن الاستغناء عنها في أي وقت، حال تعرض القطاع الخاص لأي هزة مالية، وقد شهدنا هذا الأمر في الكويت مع حدوث الأزمة المالية العالمية، إذ تم إنهاء خدمات أعداد كبيرة من المواطنين العاملين في القطاع الخاص.
وبيَّن: «لا يتصور أحد أن الخصخصة ستحل مشكلة البطالة في الكويت، بل على العكس، يمكننا القول إنها ستؤدي إلى مزيد من البطالة في البلاد».
قضية معقدة
أكد الغربلي أن خصخصة القطاع النفطي معقدة جداً، في ظل وجود «هوامير»، ونفوذ كبير لأصحاب رؤوس الأموال، مشدداً على أنه لا يفضل خصخصة القطاع النفطي، على الرغم من كل المشاكل الموجودة فيه، فمعالجة مشكلات هذا القطاع يجب أن تكون هدفا للحكومة، ولا تتركه يستولي عليه بعض «الهوامير» والمتنفذين، فالقطاع النفطي بمثابة أمن قومي للكويت، ومن المؤكد أن انتقال ملكية القطاع النفطي من الدولة إلى القطاع الخاص أمر في غاية الخطورة، فهذه الثروة الوحيدة في البلاد، ولا يمكن أن تترك في يد آخرين لنهبها.
وتابع: «لا يمكن الجزم بأن القطاع الخاص في الوقت الراهن هو الحل لمشاكل الكويت الاقتصادية، ولا يمكن الجزم أيضاً بأن هذا القطاع قادر على انتشال الكويت من كبوتها الحالية، فتجربة القطاع الخاص في الكويت حتى الآن لم تقنع الكثير، إذ ما زال يعتمد على الحكومة وعلى المشاريع التي تطرحها، وليس لديه القدرة على الابتكار، وأي هزة مالية لا يستطيع تحملها. كما أن عدم الإدارة الجيدة كما هي موجودة في المؤسسات العامة موجودة أيضا في القطاع الخاص، والخسائر التي تكبدتها الكثير من الشركات العالمية والمحلية خلال الأعوام الماضية، خير دليل، والقطاع الخاص يعج أيضا بالفساد، كحال المؤسسات الحكومية.